الأربعاء، 29 مايو 2013

الحراك العربي ومراوغات توماس فريدمان


بقلم أسماء بن قادة 




على عكس ما أبداه من حماس وتفاؤل كبير في بداية الحراك العربي، جاءت المقالات الأخيرة لتوماس فريدمان مغايرة تماما، بل أكثر من ذلك، حيث يؤكد صاحب ''العالم مسطح'' على أن مصطلح الربيع العربي لم يعد له أي مغزى في الوقت الحالي، وأنه يجب تغييره، لأن ما يعيشه العالم العربي لاعلاقة له بالربيع. وحتى عبارة ''الصحوة العربية '' التي اعتبرها من قبل مفهوما صالحا ومبشرا، لم يعد صالحا هو الآخر لهذه المرحلة، ثم يقر فريدمان بأنه قد تسرّع عندما شبّه الحراك بسقوط جدار برلين، في حين أنه كان أولى به أن يقارن ما جرى بحدث أوروبي آخر وهو حرب الثلاثين.



كان هذا الاعتراف في مقالة للكاتب والصحفي الأمريكي الشهير في جريدة نيويورك تايمز بتاريخ 14 أفريل ,2013 ومنذ هذا التاريخ جاءت مقالاته التحليلية اللاحقة لتثبت هذا الوصف، إلى غاية آخر مقال له قبل يومين، والذي بدا فيه وكأنه يكتشف العالم العربي لأول مرة، وقد انتهى فيه إلى تحديد مجموعة من الخيارات التي ينبغي أن تعتمدها الولايات المتحدة تعزيزا لمصالحها الاستراتجية في المنطقة!
في الحقيقة، لم أتوقف كثيرا وأنا أقرأ هذه المقالات عند اعترافات فريدمان، أو بالأحرى مراوغاته، فهذا دوره الذي ينبغي عليه القيام به في هذه المرحلة بالذات من صيرورة التفاعلات الجارية في العالم العربي، والتي تتقاطع تماما مع الاستراتجية الأمريكية ومصالحها في المنطقة. ولكن الذي استوقفني أمران، أولهما مقارنة ما يجري بحرب الثلاثين عاما في أوروبا، لما تعكسه من جدلية غاية في الأهمية. فحرب الثلاثين اندلعت في بدايتها كصراع ديني بين البروتستانت والكاثوليك، وانتهت كصراع سياسي يهدف إلى السيطرة على المجالات الحيوية لكل دولة شاركت في الحرب التي خلفت دمارا هائلا، اختفت فيها مناطق بأكملها من الخريطة وفقدت فيه ألمانيا لوحدها حوالي 30% من سكانها، وانتشرت الأوبئة والمجاعات في كامل أوروبا، وقد انتهت بعد 30 عاما بالتوقيع على معاهدة ستفاليا، التي انبثقت عنها الدولة القومية عام .1648 أما الأمر الثاني فإنه يتعلق بـكرونولوجيا المقالات المتناغمة مع مضامينها وخاصة أبعادها الاستراتيجية.



لا أحب أن ألتزم خط الدفاع، فذلك ليس منهجي في التحليل، ولا أحب أن أدخل في مراوغات صاحب ''السيارة لكساس وغصن الزيتون'' ، ولكن الذي يهمني هو هذه المقارنة، وما يتضمنه هذا الإسقاط من عناصر جدلية، عندما يسعى فريدمان ضمنيا إلى تشبيه ما جرى بين الكاثوليك والبروتستانت، بما يجري حاليا بين السنّة والشيعة، وهو في تأكيده على أن تلك الحرب انتهت بظهور نظام جديد، وكأنه يؤكد على أن دول الحراك تلك، لم تصل بعد إلى مرحلة الدولة. أما الأهم، فإنه يتمثل في التحولات التي حدثت في أوروبا على إثر ذلك الصراع بين السلطتين الزمنية والروحية، والذي تمخض عنه بداية علمنة تدريجية لمفهوم الحق الطبيعي، من طرف عالم القانون ''غروشيوس''، الذي قطعه عن جذوره اللاهوتية، ليجد صياغاته في روح القوانين بعد ذلك، نتاجا للمذهب العقلاني الذي صاغه الثلاثي ديكارت-غاليلي-نيوتن. وعلى إثر فلسفة التنوير، ومن خلال العقود الاجتماعية التي نظر لها ثلاثي آخر هو هوبس ولوك وروسو، كانت الدولة المدنية، بحكم ذلك الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية وفقا لمتطلبات ما تضمنته العقود الاجتماعية، وكأني بـفريدمان يريد أن يقول بأن العالم العربي لايزال يعيش الحالة الطبيعية التي يصف فيها هوبس العلاقة بين أفراد المجتمع بأنها حرب الكل ضد الكل، وربما ما يحدث في سوريا هو ما جعل خيال الكاتب خصبا في الإسقاط، واستشعارا منه لبعد المسافة الزمنية بين حرب الثلاثين وما هي عليه أوروبا اليوم نصح الكاتب الخبير الولايات المتحدة بضرورة المسارعة إلى تحديد خياراتها.



إن قراءة كرونولوجية في مضمون مقالات فريدمان منذ بدأت الاحتجاجات العربية إلى اليوم، تدل على أنه يكتب عن العرب وللعرب كما يراهم عشية حرب الثلاثين عاما بكل ظلامياتها وعبر مراوغات بارعة واستراتيجية واضحة في صناعة الرأي العام، يعبّر عن خطأ وتسرّع في الحكم في البداية، وهو الذي يقيم لفترات طويلة في مناطق مختلفة من العالم العربي، ويحاور شخصياته ويعايشه في تفاصيل حياته اليومية وكذا السياسية والاقتصادية، فكيف يغيب عنه الوقوف عند حقيقة ما يجري فيه من تفاعلات؟!   وعندما يقر فريدمان بأنه قد تسرّع في موضوع المقارنة بجدار برلين، هل يخفى على مثله أن الجدار قد سقط وألمانيا الديمقراطية تقف على بنية تحتية اقتصادية وعلمية قوية.                                وهل كانت تلك المؤشرات الخاصة بالتقرير الأممي عام 2003 حول الحالة العربية، من غياب الحرية والمعرفة وضعف تمكين المرأة، غائبة عن ذهن الكاتب، في بداية الاحتجاجات، عندما راح يكررها ويوظفها في مقالاته الأخيرة، التي اعتبر فيها ما يجري ربيعا وفتحا عظيما؟! في ظل هذه المعطيات، أحب أن أؤكد أنه على كل من استلم السلطة في دول الحراك، وهو يردد أنه قد استوعب الدرس الجزائري، أن يحاول استيعاب الدرس الأمريكي عبر كرونولوجية مراوغات فريدمان؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق