الأربعاء، 29 مايو 2013

الإسلاميون وأزمة رجل الدولة

بقلم أسماء بن قادة 


 التكنوقراط، لماذا تلجأ إليهم الحركات الإسلامية اليوم، ولماذا تبحث عنهم خارج هياكلها، ولماذا تفتقر، بعد أن أصبحت في مواقع القرار، لرجل دولة يتطلع إلى الصالح العام والإجماع الوطني، أسئلة غاية في الأهمية، لأن الإجابة عنها ستمكننا من الوقوف عند إشكاليات جوهرية في الخلفيات الفكرية وأبعاد تأسيس تلك الحركات، والتي تتجلى نتائجها عبر التراكم في العجز عن تفعيل المفهوم الحديث للدولة في الوعي الحركي الإسلاموي.
تلك المسألة غابت تماما عن الخريطة الإدراكية للجماعات الإسلامية، لأسباب موضوعية تعود إلى تغليب منطق الجماعة على منطق الدولة، ومنطق المرشد على منطق رجل الدولة، فالدولة بشخصيتها المعنوية مجموعة من المبادئ المجردة والنبيلة المرتبطة بالصالح العام، تعلو فوق أي تنظيمات أو جماعات، كانت تقابلها في الأدبيات الإسلاموية للدولة الإسلامية كهجين بين الدولة الحديثة والخلافة، وإن كان القصد هو التطلع المباشر إلى دولة الخلافة، ومن هنا بدأت رحلة التفقيه المطلق للسياسة وتحويل الدولة إلى دائرة فتوى، الأمر الذي يستلزم حتما الغفلة عن أهمية المنظومة القانونية والفلسفية المنتجة للمفهوم الحديث للدولة منذ انبثاقها عن مؤتمر وستفاليا وتطوراتها مع غروشيوس إلى هيجل، وكذا مفهوم رجل الدولة منذ ريشوليو إلى غاية اليوم.

ومن منطلق التفكير في استرجاع الخلافة، ظلت جماعة الإخوان، مثلا، إلى عهد قريب، ترفض التعددية السياسية وتعتبرها غير جائزة شرعا، كما كانت تحرم تأسيس الأحزاب. ففي المؤتمر الخامس للإخوان، أشار البنا في رسالته الشهيرة، إلى أنه كان قد ناشد الملك فاروق لإلغاء الأحزاب، وأنه اقترح على الأحزاب، آنذاك، مثل الوفد والأحرار والسعديين، الدخول طواعية في الجماعة، على اعتبار أن الأحزاب تمزق الأمة. ومن هنا، يبدو واضحا أن الجماعة تعتبر نفسها صاحبة الشخصية المعنوية التي تعلو فوق أي عصبية، وتسمو فوق كل الأحزاب التي ينبغي أن تحل نفسها وتقدم لها الولاء، فالبنا اختار عن وعي صفة الجماعة التي تنزع نحو التماهي مع الدولة، ومن ثم غاب المفهوم الحديث للدولة عن النظام الفكري للحركات الإسلامية باعتبارها هي دولة المستقبل، ولذات السبب لا يمكن أن تحل حركة الإخوان وفروعها في دول أخرى نفسها رغم وجود أحزابها في السلطة، حيث لا تمثل تلك الأحزاب إلا ''تكتيك'' يتطلبه التدرج الاستراتيجي الذي اعتمده الإخوان بسبب ما واجهوه من تحديات على مستوى الواقع.
ومن منطلق هذا التداخل غير المرئي بين مفهومي الجماعة والدولة لدى الحركات الإسلامية وبسبب منهجها في تكوين أتباعها القائم على تلقين التعليمات ووجوب العمل بها، لم يكن من سبيل للانفتاح على روافد جديدة للعلم والمعرفة أو الإفادة من أي خبرة تاريخية مختلفة بعيدا عن عقدة التسامي، لأن العصبية الإيديولوجية بطبيعتها تحول دون الانطلاق باتجاه التدبر والتخيل العلمي، الذي يعتبره باشلار أوسع بكثير من المعرفة، رغم أن الحكمة ضالة المؤمن وهو أحق بها.

وهناك أمر آخر غير مرئي تماما عند الحركات المتفرعة عن الجماعة الأم، رغم أهميته القصوى وخطورته، حيث يتبيّن، عبره، غياب مفهوم الدولة ورجالها في مناهج تكوين تلك الحركات، ويتمثل في الموقف من القضايا الدولية. فالمعروف في أي دولة تقوم على المؤسسات، أن لديها مبادئ وثوابت للسياسة الخارجية تلتزم بها الأحزاب، وهي لا تتغير بتغير الرجال أو الحكومات، على اعتبار أنها تعكس المصالح العليا للدولة، لكن المتأمل في مواقف الأحزاب الإسلامية مما يجري في دول الحراك وغيرها، يرصد اتجاها يكاد يختلف تماما مع موقف الدولة وإن ظهر أحيانا على استحياء براغماتي بحت، كما تعتبر تلك المواقف متوافقة تماما مع الجماعة الأم حتى وإن خالفت مواقف دولها. كما أن بعض الأحزاب لم تتورع عن التعبير، من خلال توظيف مفهوم التغيير، عن تطلعها لشق مجرى يكون امتدادا لذاك الربيع الذي أغرتها وروده الاصطناعية، إلى الجزائر، بالتلميح أحيانا وبالتصريح أحيانا أخرى، الأمر الذي تبدو، من خلاله، سياسات الإسلاميين سواء في صيرورتها أو في مساراتها الطويلة مجرد رصد للفرص، بعيدا عن المراجعة الجذرية القائمة على اجتهادات حقيقية.

وهناك أسباب أخرى لها أهميتها أيضا، جعلت تلك الحركات عاجزة عن صنع رجال دولة، متمثلة في الحياة الجماعية لأعضائها والتي تفرض تعايشا نمطيا في مراكز النشاط والدعوة بكافة فروعها وخلاياها وكأنها في مخيمات دائمة، الأمر الذي لا يعطي أي فرصة للفردانية أن تتحقق في أدنى حدودها فيحرم الفرد من اكتشاف ذاته ومحاورتها ورصد نقاط الضعف والقوة فيها، فيتعطل بذلك أي انبثاق لمواصفات متفردة تحملها شخصيات يمكن أن تكون مشاريع لرجال دولة، بل على العكس من ذلك، يقضي قانون الجماعة بفصل كل من أبدى رأيا مخالفا، الأمر الذي جعل من الأتباع أشبه بسدنة المعابد أمام شيوخهم.

وفي ظل هذه المعطيات، يبدو جليا أن تغيير الخريطة الإدراكية للحركات الإسلامية بات حتميا، الأمر الذي يتطلب مراجعة علمية جذرية ومتأنية للمنهجية والخلفيات المعرفية التي قامت عليها تلك الحركات، بهدف تفكيك الخريطة وإعادة تركيبها وفقا لمعطيات ثورة معرفية بدلا عن الثورة السياسية!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق