الأربعاء، 29 مايو 2013

الألتروفوبيا أو فوبيا الآخر.. إلى متى؟


 بقلم أسماء بن قادة


الألتروفوبيا أو فوبيا الآخر، أو الغيرية المرضية، مصطلح يعبّر من خلاله علماء النفس عن ظاهرة كره الآخر واعتباره عدوا، ذلك الآخر المغاير في الدين أو الثقافة أو الحضارة. فانطلاقا من عقدة التسامي التي تعتبر واحدة من الحيل النفسية التي يلجأ إليها الأفراد أو الجماعات في مراحل الضعف والتخلف، تسعى بعض الحركات للتخلص من حالة القلق الذي ينشأ بداخلها، نتاجا لحالة صراع أو وضع حضاري أو علاقة قهرية بين الغالب والمغلوب، ومن خلال الاستعلاء على من تعتبره آخر عبر المفاضلات السجالية، لأن تقف حاجزا أمام عملية تقابس استراتيجية للاستنهاض، الأمر الذي يدعو إلى البحث في مفهوم الآخر وخلفياته المعرفية، ودراسة معطيات الخبرة التاريخية في التعامل مع هذه المغايرة من حيث الدين والحضارة والثقافة، والتساؤل عن آثار تلك الحواجز التي يضعها البعض في طريق التثاقف والتمازج بين الحضارات من جهة، والمعارف الإنسانية من جهة ثانية.



في الجانب الديني، ليس هناك ما يسمى بالآخر، على اعتبار أن الطبيعة الإنسانية واحدة وثابتة في المرجعية الدينية. فمن حيث الخلق، لا تمايز بين البشر، مهما كانت الخلافات اللغوية والعرقية والثقافية والدينية... إلخ. وفي الخطاب القرآني، نجد كلمة الناس التي لا مجال فيها لشيء اسمه الآخر، فالناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، كما كان يقول سيدنا علي، رضي الله عنه. أما على مستوى الخبرة التاريخية، في جانبها العلمي والحضاري، فقد مثلت حركة الترجمة في العصر العباسي نموذجا للتثاقف الفكري والعلمي واللغوي، فبيت الحكمة في بغداد كان بمثابة المجمّع العلمي العالمي الذي ضم مترجمين وعلماء من مختلف الأديان والثقافات، كما أن الخلفاء العباسيين كانوا يدفعون ثمن المخطوطات اليونانية والفارسية والهندية بما يساوي وزنها ذهبا، وقد وقف الخليفة المأمون الأموال للذين يريدون أن ينقطعوا للترجمة التي شملت كتب الفلسفة والمنطق والسياسة والأخلاق والطب والرياضيات... إلخ. أما الأندلس، فإنها كانت المثال الأبرز لتمازج الأجناس وتجاور الأديان وتفاعل الثقافات، بل وصل ذلك التفاعل إلى حدّ إسناد مناصب رفيعة في الدولة لغير المسلمين، إنها مرحلة العقل التي تلت مرحلة الروح وسبقت مرحلة الغريزة، كما عبّر عنها مالك بن نبي في خطه البياني للدورة التاريخية والحضارية، في كتابه ''شروط النهضة''. وعند بداية الأفول التي يحدّدها ذات الكاتب بمرحلة ما بعد الموحدين، بدأت الحركة العكسية للترجمة من العربية إلى اللاتينية وكان مركزها طليطلة بعد سقوطها، والتي أنشأ فيها رئيس أساقفتها ريموند مكتبا للترجمة، تحوّل بعدها إلى مركز إشعاع أقبل عليه الباحثون بشغف بالغ، لنقل العلم والمعرفة من عمق الحضارة الإسلامية في الأندلس إلى أوروبا.




وفي العصر الحديث، اعتبر العلاّمة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه ''التحرير والتنوير''، حالة الانغلاق الثقافي دليل بدائية وتوحش، وأنه قد أمكن للحضارات أن تتقابس وتتمازج في الأخلاق والعلوم والنظم منذ القرن الرابع الميلادي، وأكد على أن الإنصات للمخالفين والأخذ منهم دليل على الثقة في النفس وعلى الرغبة في تحصيل العلم والحكمة والمنفعة، وليس دليل نقص في العقل أو ضعف في الدين.
إلى هذه المرحلة من التاريخ، لم يكن في نظامنا المعرفي والفكري مكان لمفهوم الآخر، لأننا كنا لانزال نحتفظ بحدّ أدنى من الثقة في النفس ومن القدرة على استيعاب أبعاد نص حديث ''الحكمة ظالة المؤمن''، حيث أن المشكلة بدأت مع بعض الحركات الإسلامية المعاصرة في المشرق العربي، والتي قامت على آليات الصراع المفعمة بعنصر المغايرة المرضية، والقائمة على تداعيات مبدأ دار الحرب ودار السلام، والتي انتهى بعضها في المرحلة الأخيرة إلى مفهوم الفسطاطيين، فبالعودة إلى ما يسمى بـ''الصحوة الإسلامية'' وما نتج عن الظاهرة من كتابات مفعمة بروح من السجال والانفعال والمقابلة، استنفرت واستنفدت كل آليات الدفاع الذاتي التي تحوّل الإسلام عندها إلى مجرد درع للمقاومة، يتمركز حول شعارات مثل ''الإسلام هو الحل''، تلك المغالطة التي اختزلت الإسلام بجوهره وبأبعاده الرسالية الكبرى في إدراك تلك الحركات في شعار دعائي في الاستحقاقات الانتخابية التي تقوم فيها المنافسة على البرامج التي هي من اجتهادات البشر.


وفي مرحلة لاحقة، دخلت مجموعة أخرى من المفكرين الإسلاميين في مشروع أسلمة العلوم الإنسانية التي خاضها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، والذي بدا كأنه يقوم بنوع من التعميد الإسلاموي للعلوم، من منطلق الدفاع الذاتي، ولكن هذه المرة مرفوقا بمحاولة لتقديم البديل المعمد في غفلة عن مبدأ ثابت قامت عليه كل الثورات المعرفية، والذي يتمثل في أن الحقيقة العلمية تكتشف ولا تبنى ولا تعمد،     وكأن المنصور أو المأمون أو ابن رشد وابن خلدون قد غابت عنهم في ذلك الوقت المبكر أو المتأخر من التفاعل والتواصل، فكرة غطس العلوم في بحيرة الأسلمة لتطهيرها كي تخرج إسلامية مريحة لذات مريضة، أرهقتها ميكانيزمات صراع تحوّل من حرب مشروعة ضد الغزو والاحتلال إلى معركة ضد التبادل على المستوى العلمي والفكري والثقافي.


إن كلمة البديل أو عبارة ''الحل الإسلامي'' كلاهما تعكس حالات من التأزم والانسداد، فمشاريع التنمية تقوم على تراكم الخبرة واجتهادات البشر في مجالات التخطيط والتسيير والإبداع القائم على الكفاءة. أما العلاقة بالدين، فإنها تكمن في خلفية المنظومة الأخلاقية التي تنطلق منها عملية العمران والتمدن، المفارقة لمعاني التسامي والانغلاق التي تعكس توحشا وبدائية كما قال ابن عاشور، أما الدين، فإنه متين لا تؤثـر عليه لا إسلاموفوبيا غربية ولا ألتروفوبيا شرقية!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق